إن التاريخ ليس مجرد ماض مدون على
أوراق قديمة ؛ وإنما ينبغي الإفادة منه في التعامل مع الحاضر و التخطيط للمستقبل أيضاً.
فالتاريخ من أهم الموارد الثقافية والمعرفية لثقافة الحاضر ورؤية المستقبل.
التسمية:
قال: الشقرة من اللون وهي: حمرة صافية في الإنسان، ثم قال: ( مكان، كما في
قول السيرافي إذ ينشد: فهنّ بالشقرة
يقربن القرى)
قال بن عساكر في تاريخ
دمشق : الشقرة بضمّ أوّله، وإسكان ثانيه، بعده راء مهملة: قرية بين الأعوص والطرف على ليلتين من المدينة.
وقال علي بن عبد الله الحسني أبو الحسن السمهودي
(المتوفى: 911هـ)،
الشقرة: بالضم ثم السكون، موضع بطريق
فيد، بين جبال حمر، على نحو ثمانية عشر ميلا من النخيل، وعلى يوم من بئر السائب ويومين
من المدينة،كما رواه البيهقي، ومنه قطع كثير من خشب الدوم لعمارة المسجد النبوي بعد
الحريق([2])، و في الخلاصة قال
السمهودي رحمه الله: (ومنه قطع الدوم لعمارة المسجد في زماننا)([3])،
وكان ذلك عام 888ه.
و يعضد هذه القول ما أجمعت عليه المصادر التاريخية من أن الشقرة هي
المنطقة الواقعة بين الجبال الحمر ، فقد ذكر ذلك الواقدي، والطبري، و ابن كثير
وغيرهم، وهذا يجعلنا نجزم أن سبب تسمية الشقرة نسبة للجبال الحمر المحيطة بها بلا
خلاف.
الموقع
حينما ذكر ابن عساكر قصة استعمال أبو جعفر
على المدينة المنورة محمد بن خالد بعد زياد وأمره بالجد في طلب محمد ابن عبد الله
بن حسن وبسط يده في النفقة في طلبه فأغذ السير حتى قدم المدينة هلال رجب سنة إحدى
وأربعين ومائة ، قال : ولم يعلم به أهل المدينة حتى جاء رسوله من الشقرة وهي بين الأعوص([4]) والطرف([5]) على ليلتين من المدينة([6]).
وقال الإمام السمهودي في خلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى، موضع بين
جبال حمر بطريق فيد على ثمانية عشر ميلا من النخيل وعلى يومين من المدينة([7]
المسافة بين المدينة المنورة والشقرة بالمقاييس القديمة والحديثة :
تقع الشقرة على مسافة يومين من المدينة المنورة
وهي تعادل :
أربعة برد ، ستة عشر فرسخاً، أي ثمان وأربعين ميلاً ، بما يساوي تقريباً سبع
وسبعين كيلاً من المدينة المنورة. والبريد
مسيرة نصف يوم وهو أربعة فراسخ , والفرسخ ثلاثة أميال .
وادي
الشقرة
في هذا الوادي و قف رسول الله صلى
الله عليه وسلم في طريقه إلى ذات نخل في
غزوة ذات الرقاع حيث سقف منه المسجد النبوي ، بعد الحريق الثاني سنة قال الإمام
السمهودي رحمه الله: ومنه قطع الدوم
لعمارة المسجد النبوي بعد الحريق.
قال الواقدي ([8]): (حدثني
الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر، وحدثني هِشَامُ بنُ سَعْدٍ، عَنْ
زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عن جابر، قال: وعن مالك، وغيره، عن وهب بن كيسان، عن جابر،
قال: قدم قادم بجلب له، فاشترى بسوق النبط، وقالوا: من أين جلبك؟ قال: جئت به من
نجد، وقد رأيت أنمارا وثعلبة قد جمعوا لكم جموعا، وأراكم هادين عنهم. فبلغ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَه، فخرج في أربعمائة من
أصحابه -وقيل سبعمائة- وسلك على المضيق ثم أفضى إلى وادي الشقرة، فأقام بها يوما، وبث السرايا، فرجعوا إليه مع الليل وأخبروه أنهم
لم يروا أحدا، وقد وطئوا آثارا حديثة. ثم سار النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، حتى أتى محالهم، فإذا ليس فيها أحد، وهربوا إلى
الجبال، فهم مطلون على النبي صلى الله عليه وسلم. وخاف الناس بعضهم بعضا. وفيها
صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه صلاة الخوف.
و على امتداد وادي الشقرة العديد من
الآثار القديمة والتي يمكن أن تشكل ثروة سياحية كبيرة بنطقة المدينة المنورة.
إقامة النبي -صلى الله عليه وسلم-
بوادي الشقرة وجعله مركزاً للقيادة والسيطرة:
سار النَّبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ليلة السبت لعشر خلون من المحرم
سنة أربع للهجرة، وعاد إلى المدينة لخمس بقين من المحرم، ويتبين أن النبي صلى الله
قضى خمسة عشرة ليلة في مسيره لغزوة ذات الرقاع. وقد وصل إلى الشقرة يوم الإثنين
السابع من المحرم فأقام بها و بث السرايا للإستطلاع قبل نجد، والذي يظهر- والله
أعلم- أن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بالشقرة كانت لأكثر من يوم ، وقد نص
الواقدي – ونقل عنه من بعده- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث السرايا إلى بني
ثعلبة قبل نجد و اقام بوادي الشقرة حتى عادت تلك السرايا.
قال الواقدي في معرض حديثه عن غزوة ذات الرقاع:
(فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ
حَتَّى سَلَكَ عَلَى الْمَضِيقِ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى وَادِي
الشَّقْرَةِ، فَأَقَامَ بِهِ يَوْمًا وَبَثَّ
السَّرَايَا، فَرَجَعُوا إِلَيْهِ مَعَ اللَّيْلِ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ لَمْ
يَرَوْا أَحَدًا، وَقَدْ وَطِئُوا آثَارًا حَدِيثَةً، ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى أَتَى مَحَالَّهُمْ
فَيَجِدُونَ الْمَحَالَّ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَهَرَبَتِ الْأَعْرَابُ إِلَى
رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَهُمْ مُطِلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَدْ خَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ
قَرِيبٌ، وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ أَلَّا يَبْرَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَأْصِلَهُمْ، وَفِيهَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ "([9])
وقال الزرقاني في شرحه لغزوة ذات الرقاع : (ثم سار -صلى الله عليه
وسلم- إلى أن وصل إلى وادي الشقرة ، فأقام فيها يومًا وبث السرايا، فرجعوا إليه من
الليل وخبَّروه أنهم لم يروا أحدًا، فسار حتى نزل نخلًا)([10]).
و الشقرة بوابة الحجاز للقادم من الشرق و بوابة
نجد للقادم من الغرب ، فقد قال الزبير بن بكار : وسألت سليمان بن عياش السعدي،
وكان من أفقه الناس في كلام العرب: لم سمي الحجاز حجازاً؟ ولم سميت عين الرُّبُضِ
الرُّبُضَ؟ ولم سميت عين النجفَةِ النَّجفَةَ؟ ولم سمى العقيق عقيقاً؟ قال: سمي
الحجاز، لأنه حجز بين تهامة ونجد. قلت: فأين منتهاه؟ قال: ما بين بئر أبيك بالشقرة
إلى أثاية العرج. قال: فما وراء بئر أبيك بالشقرة فمن نجد، وما وراء أثالية العرج
فمن تهامة. وأما الربض، فإن منابت الأراك في الرمل تدعى الأربض. وسميت النجفة،
لأنها في نجف الحرة. وسمي العقيق، لأنه عق في الحرة([11]).
و
قال الزّبير أيضاً: أخبرنى عمّى مصعب بن عبد الله، قال: سمعت أعرابيّا يستقي على
بئر أبيك أبى بكر بن عبد الله([12])
بالشّقرة، وهو يقول:
بئر أبى بكر وربّ القبر **
تزداد طيبا فى أداوى السّفر
يدعو له
الناس غداة النّحر ** وليلة الأضحى ويوم الفطر
وقد ولي أبوه المدينة المنورة في عهد هارون
الرشيد.
قال الزبير: حَدَّثَنِي عمي مصعب بن عبد اللَّه
قَالَ: كان أبي يكره الولاية، فعرض عليه أمير المؤمنين هارون الرشيد ولاية المدينة
فكرهها، وأَبَى أن يليها، وألزمه ذلك أمير المؤمنين الرشيد، فأقام بذلك ثلاث ليال يلزمه
ويأَبَى عليه قبولها، ثم قَالَ له في الليلة الثالثة: اغد علي بالغداة إن شاء اللَّه،
فغدا عليه فدعا أمير المؤمنين بقناة وعمامة، فعقد اللواء بيده ثم قَالَ: عليك طاعة؟
قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فخذ هذا اللواء فأخذه، وقال له أما إذا ابتليتني
يا أمير المؤمنين بعد العافية فلا بد لي من اشتراط لنفسي، قَالَ له فاشترط لنفسك؟ فاشترط
خلالًا، منها أن مال الصدقات، مال قسمة اللَّه بنفسه ولم يكله إلى أحد من خلقه، فلست
استجيز أن أرتزق منه، ولا أن أرزق المرتزقة، فأحمل معي رزقي ورزق المرتزقة من مال الخراج،
قَالَ: قد أجبتك إلى ذلك، قال: فأنفذ من كتبك ما رأيت، وأقف عما لا أرى، قَالَ: وذلك
لك، قَالَ: فولي المدينة وكان يأمر بمال الصدقات يصير إلى عبد العزيز بن مُحَمَّد الدراوردي،
وإلى آخر معه وهو يَحْيَى بن أبي غسان الشيخ الصالح من أهل الفضل، فكانا يقسمانه، ثم
ولاه أمير المؤمنين هارون الرّشيد اليمن، وزاد معها ولاية عك.
بئر الشقرة
والبئر الموجودة بالوادي هي بئر
أبي بكر بن عبدالله وقيل بكار و ذكرت بعض المصادر أنه بكر بن عبدالله بن مصعب القرشي
الأسدي المكي والذي يظهر لي والله أعلم أن الصحيح بكر ، حيث ذكر ابنه
الزبير (المتوفى: 256هـ)، صاحب كتاب جمهرة نسب قريش وأخبارها
قال :حدثني عمي
مصعب بن عبد الله قال: سمعت بدوياً يستقي على بئر أبيك
بكر بن عبد الله بالشقرة ويرتجز([13]):
بئرُ أبي بكْر وربّ القبْرِ ** تزدادُ طيباً في أداوَى السَّفْرِ
كأنَّ دَلْوَيهاَ جناَحاَ نَسْرِ ** يدعو له الناسُ غَداةَ النَّحْرِ
وليلةَ الأضحَى ويومَ الفِطْرِ
وقد أورد عبدالسلام هارون في نوادر المخطوطات مخطوطة
بعنوان كتاب أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام وأسماء من
قتل من الشعراء لأبي جعفر محمد بن حبيب
وفيها قصة الشاعر سالم بن دارة (أحد بني عبد الله بن غطفان، وكان هجا
رجلاً من بني فزارة يقال له زميل بن وبير، بقصيدة طويلة)، ثم إن زميلاً قدم
المدينة بعد ذلك بزمان فقضى حوائجه، حتى إذا صدر عن الشقرة ( أي عن ماء الشقرة
) سمع رجلاً يتغنى بقوله:
ملكتُ بها الإدلاجَ حتَّى بدا لها ** مع الصُّبح من أشباع ركن يلملم
وقد أوغلت في السَّير حتَّى كأنما ** يكسَّر قيض بينهنَّ وحنتم
فعرف زميل صوت سالم، فأقبل إليه فضربه ضربتين، ثم عقر بعيره، فحُمل
سالم إلى عثمان بن عفان، فدفعه إلى طبيب نصراني فطببه.
ويقال إن أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري، وكانت عند عثمان بن
عفان رضي الله عنه، جعلت للطبيب جعلاً حتى سمه فمات([14]).
وذكر
القصة أيضاً عبد القادر بن عمر البغدادي
(ت: 1093ه) ، في كتابه: خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب الجزء الثاني ص
149 ، بتحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون 1418 هـ - 1997 م
[3]- السمهودي، خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى، دراسة وتحقيق: د/
محمد الأمين محمد محمود أحمد الجكيني، طبع على نفقة السيد: حبيب محمود أحمد، وجعله
وقفا لله تعالى، ج2، ص456.
[4] -الاعوص:
موضع قرب المدينة على أميال يسيرة منها (معجم البلدان)
[5]- الطرف: ماء قريب من
المرقى على ستة وثلاثين ميلا من المدينة (معجم البلدان)، ومكانها بلدة الصويدرة
المعاصرة.
[6]- ابن عساكر ،أبو القاسم
علي بن الحسن بن هبة الله(ت: 571هـ) ،
تاريخ دمشق ،المحقق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
والتوزيع، عام النشر: 1415 هـ - 1995
[7]- السمهودي، علي بن عبد الله بن أحمد الحسني (المتوفى:
911هـ)،خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى ،دراسة وتحقيق: د/ محمد الأمين محمد محمود
أحمد الجكيني طبع على نفقة السيد: حبيب محمود أحمد، وجعله وقفا لله تعالى ص654
[8] - محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء، المدني، أبو عبد
الله، الواقدي(130 - 207 هـ )، من أقدم المؤرخين في الإسلام، ومن أشهرهم، ومن حفاظ
الحديث.
[9]
البيهقي ، أبو بكر أحمد بن الحسين
الخُسْرَوْجِردي الخراساني(المتوفى: 458هـ)، دلائل النبوة،
تحقيق: عبد المعطي قلعجي،
دار الكتب العلمية، دار الريان للتراث،ط. 1،1988م، الجزء
الثالث،ص 371
[11]- القرشي ، الزبير بن بكار بن عبد الله ا الأسدي المكي (المتوفى:
256هـ) ، جمهرة نسب قريش وأخبارها ، تحقيق: محمود محمد شاكر ، مطبعة المدني ، 1381 هـ ص 53
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق