19 أبريل 2025

العين بين العقل والقلب: فلسفة النظرة بين الغرب والشرق

العين بين العقل والقلب: فلسفة النظرة بين الغرب والشرق

قدّمتُ في كتابي "الدلالات التربوية لتعبيرات الوجه" (2016) اثنتي عشرة لغة للعيون، كشفت من خلالها عن عمق هذا العضو الفريد، وقدرته على التعبير العاطفي والمعرفي ببلاغة تتجاوز اللسان. تلك التجربة زادتني شغفًا بهذه الأداة العظيمة، التي استوقفت الشرق والغرب منذ القدم، بلغاتها الصامتة وفصاحتها الشعورية، وبمقدرتها العجيبة على كشف المكنون، ونسج المعاني من نظرة أو رمقة أو طرفة.

لطالما كانت العين مرآةً للروح ومسرحًا خفيًا للمشاعر، غير أن الحضارات اختلفت في تأويل نظراتها. ففي الغرب، غلب على التفسير الطابع التحليلي النفسي، إذ أصبحت العين أداة علمية دقيقة تُقاس بها الانفعالات، وتُقرأ من خلالها النوايا، ويُحلل بها السلوك الإنساني. أما في الشرق، وتحديدًا في التراث العربي، فقد ارتقت العين إلى مقام وجداني، تُفهم بالنبرة الشعورية، وتُفسّر بما تُلقيه من أثر في القلب قبل العقل.

وفي علم النفس الحديث، لا سيما في أعمال Paul Ekman، تحولت العين إلى مرصد للانفعالات الدقيقة. توسّع حدقة العين، على سبيل المثال، فُسّر بأنه دلالة على الإثارة العاطفية والانجذاب، وهو استجابة عصبية تلقائية لنشاط الجهاز السمبثاوي. وفي أدبيات Joe Navarro، الخبير في لغة الجسد والتحقيقات السلوكية، تُعدّ العين مؤشرًا أوليًا للكذب أو التوتر أو الخضوع، حيث يُفسر تجنّب التواصل البصري بأنه علامة على خلل داخلي أو رغبة في الإخفاء.

ويشير Allan and Barbara Pease في كتابهما الشهير "The Definitive Book of Body Language" إلى أن اتجاه نظرة العين يكشف نوع التفكير: فالنظر إلى أعلى اليمين يرتبط بالتخيل، بينما الأسفل إلى اليسار يدل على التذكّر. أما Desmond Morris، فقد رأى في كتابه "Manwatching" أن توسّع الحدقة قد يكون أكثر فصاحة من الكلام في لحظات الغرام.

ولكن هذه الرؤية الغربية التي تُحلّل العين بوصفها مؤشرًا عصبيًا، تختلف تمامًا عن النظرة العربية التراثية، التي منحت العين بُعدًا شعريًا وروحيًا. ففي الأدب العربي، تُوصف النظرة بأنها سهم يصيب القلب، وجرح لا يُرى، وصوت لا يُسمع.

إذ يقول عنترة بن شداد:

"قتلوك يا طرفي وإنك قاتلي

وعينك إن رمت السلامة خادعُ"

وفي موضع آخر، نجد العربي يتحدث عن العيون كأنها شِعرٌ صامت، إذ يقول:

"تكلمت عينه فصمت لسانه"،

أو: "قالت بعينيها ما عجزت عنه الشفاه."

وفي الفراسة، كما عند ابن القيم: "العين تخبرك بما في النفس، وإن لم ينطق اللسان." فالنظر عند العربي لم يكن خاضعًا للقياس بقدر ما كان خاضعًا للإحساس.

فعند العربي المسلم، غضّ البصر دليل حياء، بينما هو في علم النفس الغربي قد يُفسَّر على أنه علامة ضعف أو عدم ثقة، وقد تبوح العين في التراث العربي بالحب العميق من رمقة واحدة، بينما تحتاج في التحليل الغربي إلى أجهزة ترصد تقلص الحدقة وعدد الرمشات وطول النظرة لتصل إلى استنتاج.

وهنا يبرز الفارق الفلسفي: الغرب يُشخّص العين ويُحللها، والشرق يُصغي لها ويشعر بها.

الغرب يسأل: "ما الذي تعنيه هذه النظرة؟"،

أما العربي فيسأل: "ما الذي شعرتُ به من عينه؟"

وهنا تكمن عبقرية المزج في "أحاديث العيون"، فهو لا ينحاز إلى أحد الطرفين، بل يزاوج بين دقة العقل الغربي ورهافة الوجدان الشرقي.

بينما يبحث العالم النفسي عن سبب توسّع الحدقة، يبحث الشاعر عن معنى النظرة.

وبين هذا وذاك… تنبض العين بحياة كاملة من "الأحاديث" التي لم تُكتب بعد كما ينبغي!.

د. محمد العمري

19 أبريل 2025